الرئيسة \  واحة اللقاء  \  هيئة تحرير الشام عنوان صراع أميركي – روسي في شمال سوريا 

هيئة تحرير الشام عنوان صراع أميركي – روسي في شمال سوريا 

23.06.2021
هشام النجار


العرب اللندنية 
الثلاثاء 22/6/2021 
أبدى الرئيس فلاديمير بوتين وعدد من المسؤولين الروس تفاؤلا حذرا غداة القمة مع الرئيس الأميركي جو بايدن، مرحّبين بعودة “المنطق الأميركي السليم”، إلا أن الخلافات يبدو أنها لن تغادر مربع العدائية وقد تنعكس سلبا على ملفات المنطقة الساخنة وأبرزها الملف السوري. وفيما تشكل هيئة تحرير الشام عنوانا للصراع الأميركي – الروسي في شمال سوريا، فإن التطورات الأخيرة بعد فشل زعيم الهيئة أبومحمد الجولاني في استنساخ نموذج طالبان في المفاوضات والتقرب من واشنطن، صبّت في صالح موسكو ودمشق اللتين حرصتا على تحييد خطط إدارة جو بايدن لاختراق الملف السوري، بينما تحرم التحولات الراهنة تركيا من مقايضة نظام الأسد على تسوية مرضية لها. 
قبل لقاء الأربعاء السادس عشر من يونيو في جنيف بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين عكست مواقف بلديهما حيال التنظيمات الجهادية في سوريا الرغبة في ألا يستخدم طرف هذا الملف لمصلحته ضد الآخر. 
تزامن اللقاء مع عرض وثائقي “الجهادي” الذي تناول سيرة زعيم هيئة تحرير الشام أبومحمد الجولاني والذي أعده الصحافي الأميركي مارتن سميث على خدمة البث العام الأميركية. ولم يلمع الرجل بعد عرضه أخيرا كما كان متوقعا على ضوء ما نُشر من نص المقابلة السابقة على موقع “فرونت لاين” في فبراير الماضي. 
وقد حمل الوثائقي المُعد بعناية واحترافية إدانة قوية وتضمن تعليقات من قبل سميث وآخرين تدحض ما سعى الجولاني لترويجه مبرّئا نفسه من الإرهاب وتعذيب السجناء والأجانب. 
وعدّل السفير الأميركي السابق جيمس جيفري من موقفه المرن تجاه هيئة تحرير الشام وزعيمها عندما أشار في نهاية الفيلم إلى أنه تلقى بالفعل رسالة من الهيئة تطلب إقامة علاقة طبيعية مع واشنطن، مشدّدا على أنه لم يناقش تلك الرسائل مع الإدارة الأميركية متسائلا: لماذا أضع نفسي في موقف صعب بأن أسعى لإسقاط شخص من قائمة الإرهاب؟ 
رسائل متبادلة 
خيارات أنقرة في سوريا تتضاءل، فهي غير مهيأة ولا مؤهلة لمواصلة الشراكة وتبادل المصالح مع موسكو بعد انتهاكها للهدنة، فيما لم تغادر علاقات أنقرة وواشنطن مربع التأزم بعد لقاء بايدن وأردوغان 
يمكن اعتبار المضمون النهائي للفيلم الذي ناقض التحضيرات له والتي أوحت بأن هناك خطة أميركية مّا لتعويم الجولاني وحركته في المشهد السياسي السوري، كذلك تصريحات جيفري الجديدة التي تُعدّ انقلابا على مواقفه القديمة التي غذّت أوهام الجهاديين السوريين الطامحين إلى الخروج من التصنيف الأميركي كإرهابيين، بمنزلة إعلان موقف حاسم يضع النقاط على الحروف بشأن مسألة علاقة واشنطن مع هيئة تحرير الشام وزعيمها. 
رسائل هذا المحتوى الإعلامي بدت كأنها كانت موجهة للمسؤولين الروس قبل لقاء القمة بين بايدن وبوتين، فإعلان فشل محاولات الجولاني في التقرب من واشنطن والتنصل من حركته هو إيذان بانفتاح على إيجاد أرضية مشتركة بين البلدين يسمح بتعاون متوازن في الساحة السورية. 
لن تحصل واشنطن على هذه النتيجة في ظل ضبابية علاقتها مع هيئة تحرير الشام والجهاديين في الشمال السوري، لأن التصعيد الراهن من قبل قوات النظام السوري وروسيا في جنوب إدلب شمال غربي سوريا يحمل في ثناياه استعراضا للقوة بغرض إظهار روسيا أكثر تحكّما في مستقبل سوريا من الولايات المتحدة. 
وعلى الرغم من أن أميركا ليست حليفة لهيئة تحرير الشام وتصنّف زعيمها على قائمة الإرهاب منذ 2013 واضعة مكافأة قدرها عشرة ملايين دولار مقابل معلومات تؤدي إلى القبض عليه، إلا أن واقع الحال مع الإشارات السلبية السابقة بشأن خطط تعويم الجولاني وفرضية قبول واشنطن به وبهيئته كطرف سياسي يحظى بتمثيل في التسوية المقبلة، منح موسكو فرص الإيحاء بأن كل استهداف منها لرموز الهيئة وكل ضرباتها ضد قواتها بمثابة خصم من نفوذ واشنطن في سوريا وفي المنطقة. 
كثفت روسيا بالتعاون مع قوات الجيش السوري من عملياتها العسكرية في إدلب ضد تمركزات قادة هيئة تحرير الشام وقتلت في إحدى غاراتها الجوية في قرية إبلين بجبل الزاوية جنوبي إدلب قادة ومسؤولين مهمين في الهيئة في مقدمتهم أبوخالد الشامي الذراع اليمنى للجولاني والمتحدث الإعلامي باسم الهيئة، وأبومصعب الحمصي، والقيادي البارز في الهيئة معتز النصر. 
عدّت الضربات الروسية الأقوى والأكثر دقة منذ توقف الغارات الأميركية ضد قادة هيئة تحرير الشام بعد وصول الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مرورا بوقف إطلاق النار بموجب الاتفاق التركي – الروسي الموقّع في مارس من العام الماضي، ولاح هدفها الأساس هو إحباط اختراق أميركا للملف السوري بعد الإعلان عن فوز بشار الأسد بفترة رئاسة جديدة عبر تفاهمات مع موسكو تضغط خلالها واشنطن بورقة إيصال المساعدات الإنسانية عبر الحدود بغرض إجبارها على تقديم تنازلات. 
اقتنصت موسكو الفرصة المواتية لإضفاء الشرعية ميدانيا على عملية إعادة انتخاب بشار الأسد عبر توسيع رقعة تمدّده داخل المناطق التي تسيطر عليها قوات ما يُطلق عليها المعارضة المسلحة 
ارتأت روسيا أنه من أجل تثبيت منجز إعلان فوز الأسد بالرئاسة والبناء عليه للحفاظ على مصالحها ونفوذها في سوريا، ينبغي قطع الطريق مبكّرا أمام واشنطن كي لا توظف الملف الإنساني عبر تكريس واقع مختلف يضع هيئة تحرير الشام في موقف ضعف، فارضة إدخال المساعدات الإنسانية عن طريق الحكومة السورية لا عن طريق المناطق التي تسيطر عليها القوات التابعة لهيئة الجولاني. 
اقتنصت موسكو الفرصة المواتية لإضفاء الشرعية ميدانيا على عملية إعادة انتخاب بشار الأسد عبر توسيع رقعة تمدّده داخل المناطق التي تسيطر عليها قوات ما يُطلق عليها المعارضة المسلحة من جهة، ومن جهة أخرى انتهزت اقتصار أوراق السياسة الأميركية على التركيز على الجانب الإنساني ومطالبات بفتح المعابر لوضع واشنطن أمام أمر واقع لا تملك معه خيارات بديلة عن خطط وضع حد لنفوذ الإرهابيين وتمركزهم في محافظة إدلب، الذين تلحّ موسكو على لسان كبار مسؤوليها على اعتبارهم أساس المعضلة في الأزمة السورية. 
فرض موسكو رؤيتها المناقضة لرؤية واشنطن بشأن طرق إيصال المساعدات الإنسانية وتثبيت نفوذ حلفائها وتقليص فرص المعارضة المسلحة وهيئة تحرير الشام في التحول إلى أطراف سياسية معترف بها فضلا عن قضم مناطق تسيطر عليها وإضعاف حضورها ونفوذها العسكري والميداني، لا تنعكس سلبيا فحسب على مستقبل الهيئة في الشمال السوري، بل أيضا على فرص الولايات المتحدة وتركيا في التأقلم مع متغيرات المشهد السوري والتي تشكل تحدّيا كبيرا لكليهما. 
وتحرم مواصلة موسكو تمتعها بكل النفوذ العسكري في سوريا وتطبيق تصوراتها وسياساتها من موقع قوة الرئيس الأميركي جو بايدن من هامش المناورة سواء خلال لقائه ببوتين في جنيف أو خلال المرحلة المقبلة في سياقات مناهضة الولايات المتحدة لنفوذ الصين وروسيا وتوسّعهما في منطقة الشرق الأوسط. 
تكريس شرعية الأسد 
رفض واشنطن فتح صفحة جديدة لهيئة تحرير الشام أبعدا الحركة الإرهابية عن إمكانية الدخول في المعادلة السياسية 
عكست التطورات الأخيرة تصميما من قبل موسكو ودمشق على تقويض الفصائل المسلحة ودحرها وبسط السيادة على ما تسيطر عليه في الشمال السوري بغرض استعادة محافظة إدلب كجسر رابط بين حلب عاصمة البلاد الاقتصادية ودمشق فضلا عن المناطق الساحلية الأخرى وربط المعاملات والأنشطة التجارية بين حلب وباقي أنحاء سوريا. 
لا يقتصر التحرك المشترك من قبل موسكو ودمشق باتجاه إنهاء هذا الصراع من جذوره وتوسيع نطاق هيمنة الحكومة السورية على الأرض على تحقيق العديد من المكاسب السياسية في مواجهة الخصوم والمنافسين الدوليين والإقليميين، إنما بات هدفا حيويا مضافا لتكريس شرعية الرئيس السوري بشار الأسد بعد إعادة انتخابه لجهة تجاوز الأزمات والمعاناة الاجتماعية والاقتصادية وسط تحديات هائلة تجابه حكومته خلال المرحلة المقبلة في ظل العقوبات الدولية وتداعيات الحرب. 
لن يكون مجديا خلال المرحلة الحالية أن تقوم تركيا بما كانت تقوم به في السابق عبر محاولات الضغط على روسيا لإنهاء عمليات الجيش السوري، ولا من خلال شن قواتها وقوات الفصائل الموالية لها هجمات على تمركزات الجيش السوري بريف إدلب الجنوبي، فالتصعيد الراهن من قبل دمشق وموسكو ضد مناطق جنوب إدلب يرمي أيضا إلى الضغط على أنقرة ومنع دخول المساعدات الإنسانية عبر المنافذ الحدودية مع تركيا. 
اجتياح القوات السورية والروسية لمناطق جبل الزاوية جنوب إدلب هو بمثابة التطور الميداني الأهم منذ بداية الأزمة من جهة تهديده لدور تركيا الذي تطمح إلى لعبه خلال تسوية قريبة مرتقبة، وهو الدور الذي يتوقف في الأساس على نتائج معركة إدلب في حال ربحتها الفصائل الموالية لأنقرة أو خسرتها. 
من شأن هذا التحول أن يحرم أنقرة من قدرتها على تنفيذ خطتها المستقبلية التي كانت تنوي المساومة بها خلال التسوية المرتقبة عبر مقايضة النظام السوري ليبسط هو سيطرته على الشمال الشرقي للبلاد للحيلولة دون تكريس إدارة ذاتية كردية لتصبح هذه المناطق تابعة لإدارة مركزية في دمشق، مقابل إخضاع شمال غربي سوريا لوكلاء تركيا الجهاديين من التركمان ولهيئة تحرير الشام. 
تقل خيارات أنقرة في سوريا فهي غير مهيأة ولا مؤهلة لمواصلة الشراكة وتبادل المصالح مع موسكو بعد انتهاكها للهدنة وإعطائها الضوء الأخضر للفصائل الموالية لها لشن هجمات على القوات السورية والروسية، ولم تغادر علاقات أنقرة وواشنطن مربع التأزم بعد لقاء بايدن وأردوغان. 
كما أن المنطقة الشمالية الغربية صارت تشهد هشاشة تنذر بالخطر بين النظام السوري وتركيا التي لا تستطيع المغامرة مجدّدا بشن هجوم عسكري مماثل لما جرى في فبراير من العام الماضي والذي أسفر عن سقوط العشرات من الجنود الأتراك. 
مستقبل غامض 
ليس من السهل نسيان الماضي وفتح صفحة جديدة  
باتت هيئة تحرير الشام واقعة في مأزق مركب، حيث فشلت عملية تعويمها وتلميع قائدها ما يعيق مغادرتها خانة التصنيف كمنظمة إرهابية وتحصينها كطرف سياسي مشارك في صياغة المستقبل السوري وهندسته من جهة، ومن جهة أخرى لا يستطيع حلفاؤها الضغط لإيقاف الهجوم على قواتها واجتياح المناطق التي تسيطر عليها، ما يعني بدء مرحلة تهميشها أو ربما اضمحلالها خلال المدى المنظور بعد أن كانت تسيطر على 11 في المئة من عموم الأرض السورية. 
استمرار وضع الهيئة كتنظيم إرهابي في نظر الغرب وأميركا ودمشق وحليفتها موسكو وحرمانها من التحكم في الحدود والمعابر لإيصال المساعدات الإنسانية والخدمات الرئيسية في إدلب، سيفاقمان المشكلة الاجتماعية والصحية والاقتصادية في المنطقة، وهو ما يزيد من مشاعر السخط المحلي ضد حكم الهيئة التي تجابه تحركات شعبية غاضبة ومتصاعدة. 
وستستغرق عملية تعويم الجولاني وإعادة إنتاجه كإرهابي تائب وفق ما أبداه من مناشدات ومحاولات استعطاف للغرب وأميركا ضمن المحتوى النهائي لوثائقي “الجهادي” فترة طويلة لتقييم سلوكه والوقوف على مدى قدرته على ضبط عناصر حركته في سياق التحولات التي أعلنها، حيث يعاني قائد هيئة تحرير الشام من معضلة رفض الكثيرين داخل حركته لتلك التحولات. 
الهيئة التي تنطوي على تيارات متعددة ومنها شديدة التطرف ومن لا يزال يحمل الفكر القاعدي خاصة في أوساط الأجانب الذين يشكلون رقما كبيرا في صفوفها، قد تنفجر من الداخل مع زيادة الضغوط والتهديدات الأمنية والعسكرية من قبل دمشق وموسكو خاصة مع تأخر أو تأجيل وربما انهيار الاستجابة الدولية لقبول الهيئة كطرف وطني، في حال كان الوثائقي الأخير معبّرا عن الموقف الأميركي الرسمي. 
أبعد رفض أميركا طلب الصفح وفتح صفحة جديدة لهيئة تحرير الشام على ضوء الضغوط والتحركات الروسية والسورية الأخيرة إمكانية تحقق إعادة صياغة التنظيمات الموصوفة بالإرهاب في الشمال السوري للتمتع بالشرعية والدخول في المعادلة السياسية. 
تصبّ مجمل التطورات في صالح موسكو ودمشق اللتين حرصتا على تحييد خطط إدارة بايدن لاختراق الملف السوري عبر الضغوط من زاوية الوضع الإنساني، حيث لا تزال المعركة التي تخوضها العاصمتان معركة ضد منظمات مصنّفة إرهابية، والحرب ضد الإرهاب لا توقفها اعتبارات إنسانية ولا تعترف بتهدئة أو وقف لإطلاق النار حتى ولو كان المدنيون هم الضحايا.